دعونا الآن ندرس المجتمع البدوي . وهنا أقول بأن الأبحاث الاجتماعية الحديثة ترى بأن اي مجتمع من المجتمعات البشرية هو كالفرد يملك شخصية خاصة به . واذا درسنا البداوة في هذا الضوء خرجنا من ذلك بنتيجة قد تختلف عن النتائج التي توصل اليها السواح أو المستشرقون الذين درسوا البداوة في عصرنا الحاضر . ومشكلة هؤلاء الدارسين أنهم كانوا يصفون الصفات التي اكتشفوها في المجتمع البدوي جنبا الى جنب من غير ان يتحروا عن العامل المشترك الذي يختفي وراءها . إنهم بعبارة أخرى كانوا كمن يدرس أحد الأفراد فيذكر صفاته المختلفة دون ان يذكر طابع الشخصية الذي يؤلف منها تلك الصفات نظاما حرفيا متماسكا .
وهنا نسأل : ما هو الأساس الذي تقوم عليه شخصية المجتمع البدوي؟ للجواب على ذلك ينبغي أن نقارن بين الشخصية البدوية والشخصية المناقضة لها اي الشخصية الحضرية . ومن الممكن القول في هذه المناسبة ان الشخصية الحضرية تقوم على (الانتاج) ، بينما تقوم الشخصية البدوية على (الاستحواذ) . وشتان بين أخلاق الانتاج وأخلاق الاستحواذ كما تعلمون .
نحن نعرف بوجه عام أن الفرد الحضري العريق في حضارته يصعب عليه ان يعيش من غير مهنة او نوع من الانتاج يحاول الحذق فيه . وقد يكون الانتاج ماديا او فكريا، إنما هو على اي حال براعة تنال بالجهد والمكان في معظم الاحيان . وكلما حسنت براعة الفرد الحضري في مهنته التي اختص بها راج سوقه وارتفع مستوى معاشه بالنسبة إلى أقرانه الذين يعيشون في مثل ظروفه .
أما البدوي فله شان آخر . ان يعيش في صحراء لا تعرف من شؤون الانتاج الا قليلا . وليس فيها سوى العشب ينبت هنا وهناك بأمر الله . قال القرآن يخاطب سكان الصحراء : وفي السماء رزقكم وما توعدون . سورة الذاريات قلت : المخاطب هنا ليس القران بل هو الله عز وجل يخاطب عباده فالقرآن رسم لا يتكلم ، الا ان رآه المؤلف مجازا لغويا في ذهنه ربما . والا فالعلماء المحققين لا يرون مجازا في القرآن وان اختلفوا البعض حول ذلك .
نتابع المؤلف في شرح النص قال : وهو يشير بذلك الى المطر الذي ينزل من السماء حيث ينبت العشب الاخضر وتكثر الجدران وتمتلىء الآبار وعند هذا ينعم البدو بالشبع والري دون ان يحسبو لغدهم حسابا .
ومشكلة البدو الكبرى انهم لا يستطيعون ان يقتسموا مواطن العشب والماء فيما بينهم او يسجلوا حقوقهم فيها بصكوك كما يفعل المتحضرون في أموالهم. فمواطن العشب والماء قليلة بالنسبة الى عددهم المتنامي. وهم مضطرين اذن ان يتنافسون ويتنازعوا عليها بحد السيف . وليس في البادية مكان للضعيف الذي يدعوا الى مباديء العدالة والمساواة .
يقول الشاعر :
ونشرب إن وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا ... وطينا
قلت :
هو الفارس والشاعر عمرو بن كلثوم التغلبي قاتل ملك الحيرة عمرو بن هند اللخمي .
نتابع مع المؤلف بقوله :
وجاء في أمثالهم الدارجة :
الحق بالسيف والعاجز يريد شهود .
وجاء كذلك قولهم : الحلال ما حل باليد . والذي يجلس اليهم يستمع الى أحاديثهم يجد انهم يقيسون الرجولة الكاملة بقياس الغلبة والاستحواذ . وهم اذ يمدحون رجلا يقولون عنه إنه (سبع) ياخذ حقه بذراعه ولا يقدر أحد عليه .ومن أكبر العار على أحدهم ان يقال عنه صانع او حاءك . فذلك يعني في نظرهم انه ضعيف يحصل على قوته بعرق جبينه كالنساء ولا يحصل عليه بالسيف .
ومن هنا أطلقوا على العمل اليدوي المهنة والمهنة مشتقة من المهانة كما لا يخفى . انتهى النقل
من كتاب الاخلاق والضاءع من الموارد الخلقية- للفيلسوف العراقي الدكتور علي الوردي
يتبع ان شاء الله بموضوع مستقل رأيه في المجتمع الحضري .
((aowdm hgl[jlu hgf],d))